– في لعبة المشاعر والعواطف ومعادلاتهما، ليس مشهد مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح مشهداً مرغوباً، ولا نهاية مستحبّة لواحدة من الحلقات المفصلية في تاريخ الحرب اليمنية، وفي المقياس الإعلامي تطغى ردود الأفعال المنطلقة من التنديد أو الانفعال أو الثأر أو التوقعات المغالية بانفلات الأمور من عقالها، بعد مقتل زعيم بحجم صالح وحزبه والعشائر التي التفتّ حول زعامته، لكن بمقاييس السياسة، وبعقل بارد، وهو ليس بالأمر السهل مع حرارة المشهد، تبدو الصورة مغايرة.
– الرئيس السابق علي عبد الله صالح انتحر، وشكل الانتحار الجسدي تفصيل في مشهد الانتحار السياسي، وكيفية حدوث هذا الانتحار الجسدي بيده أم بيد مَن، تفصيلٌ من تفصيل. فالخيارُ بذاته كان انتحارياً، يا قاتل يا مقتول، ومبنياً على خيار سياسي صعب التبرير بقياس خطاب مناهضة العدوان السعودي الذي واظب عليه صالح لثلاث سنوات، وعلى حسابات ميدانية مضى عليها ثلاث سنوات أيضاً. وثبت في النهاية أنها لم تعُد تشبه الواقع بشيء، ومضى في طريق لا رجعة فيه، وكان طريقه الوحيد للبقاء هو أن ينتصر وتنتصر معه السعودية ومن ورائها الحلف المساند لمشروعها وحربها. وفي حال الفشل يصير الانتحار قدره، وويصير الاستسلام انتحاراً والفرار انتحاراً وإطلاق الرصاص على رأسه بيده أو بيد سواه أيضاً نوعاً من الانتحار.
– في السياسة أيضاً ما لم يجد الرهان عليه وصالح على قيد الحياة من استنهاض قبائلي أو عسكري، لن يحدث بعد هزيمة رهانه ومقتله، مهما كان حجم الانفعالات المرافقه لنهايته الدرامية، فالانتحار الجماعي ليس مشهداً مألوفاً في التاريخ، بداعي الانفعال، سينزح مناصرو صالح المقربون، والخائفون من الملاحقة إلى مناطق السيطرة السعودية، وسيصيرون رقماً إضافياً لا يغيّر في المعادلات، وسيستتب الوضع في صنعاء وجبهاتها والمحافظات التي تعيش وضعاً مشابهاً لها، لأنصار الله والجيش واللجان والحكومة، كمؤسسات حكم يقوده أنصار الله، وسيشاركهم من حسم أمره من بقايا حزب صالح الذين لم يلبّوا نداءه للانقلاب، والذين صدّقوا وآمنوا أن أولوية بلدهم مقاومة العدوان، ومثلهم ضباط الجيش الذين صاروا خلال سنوات الحرب جزءاً عضوياً من جبهة الحرب، وصار مستقبلهم جزءاً من مستقبلها.
– السعوديون والإماراتيون، وبسبب لغة العنجهية والتعالي لن يسهل عليهم الاعتراف بالحقائق الجديدة، وقد أنكروا ما هو أقلّ منها ألماً، ومضوا في حرب الرهانات الخاسرة يخترعون لها رهان كلما جفّ حبر رهان، وسيتحدّثون اليوم عن حرب سريّة يخوضها مناصرو صالح تستحق الفرصة، لتبرير مواصلة حرب الدمار والخراب والموت، لكن الأميركيين والأوروبيين، الذين يفسر انقلاب صالح، منحهم المزيد من المهل للسعودية والإمارات منذ الصيف الماضي، باتوا أمام المعادلات النهائية للحرب في اليمن، حيث لا أوراق إضافية يمكن لعبُها ولم تُلعَب، وكان آخرها استنحار صالح.
– اليمن في حال التصعيد أمام خيار عجز أكيد عن تحقيق نصر على أنصار الله، ولعبة توازن رعب صاروخي يُمسك بها اليمنيون، تضع مدن ومنشآت السعودية والإمارات تحت النار، والمغامرة بمحاولة شطب أنصار الله لتصنيع تسوية تحت المظلة السعودية الإماراتية، تستبعد إيران، وتُعيد تقاسم السلطة بين محوري منصور هادي وعلي عبد الله صالح، سقطت وانتهت، وصار القدر هو الاختيار بين حرب يصل فيها الجنون حدود اللامعقول، ولكن لن يدفع اليمن وحده ثمن جنونها، أو تسوية مؤلمة، تدفع فيها دول الخليج فاتورة مكلفة والأميركيون من ورائهم، بالتعايش مع معادلة إقليمية جديدة ما بين مضيق هرمز وباب المندب، وسواحل البحر الأحمر، تقرّ بحجم شراكة محور المقاومة في معادلات البحار، وحرب اليمن واحدة من حروب البحار، بعدما حُسم أمر البحرين الأسود وقزوين، وجاء دور البحر الأحمر وبحر الخليج، لتنعقد طاولة التسويات في خامس البحار، الذي يتوسّطها، وهو بحر اسمه المتوسط أصلاً، حيث يعترف الجميع بشراكة الجميع، ولكن بتوازنات جديدة وشروط جديدة حصيلتها، ثلاثة قزوين والأسود ونصف الخليج ونصف الأحمر لواحد نصف الخليج ونصف الأحمر ، ومتوسط، بعدما كانت واحداً ونصفاً نصف قزوين ونصف الأسود ونصف الخليج لثلاثة ونصف المتوسط والأحمر ونصف قزوين ونصف الأسود ونصف الخليج .
– حرب البحار الخمسة تكتب خاتمتها بصورة درامية بدماء علي عبد الله صالح في اليمن، وآخر الجروح التي تفتح هو أول الجروح التي تجري خياطتها في علم الجراحة، فهل تستجيب السياسة وتكون التسوية اليمنية فاتحة التسويات لا ختامها؟